الخميس، 28 أكتوبر 2010

الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

اللين والرفق







اللِّين والرِّفق


إن التوازن في شخصية المسلم ليجمع الشدة والرحمة ، وإن من الحكمة مراعاة كل ظرف بما يناسبه، والتعامل مع كل حالة بما تقتضيه؛ من الأخذ بقوة أو الرفق واللين ، غير أنه يبقى أن الأصل في التعامل الاجتماعي اللين والرقة ، ما لم يقم ما يقتضي خلاف ذلك .


أما حين تنضب ينابيع العاطفة ، فلابد من تطهير القلب من عوامل القسوة ؛ لتنعكس صورة اللين على المعاملة والسلوك .






إن طول الزمن قد يخفف من رقة الشعور ، وتطاول الأيام قد ينسي بعض القيم ، وتقادم العهد قد يغير المشاعر القلبية ، ما لم يتعهد المرء نفسه ويجلو قلبه ، ليبقى حاضر الفكر ، واعي القلب ، يقظ الإحساس ، ولأن اللين ظاهرة سلوكية تنبع عن قلب لين ، فقد عاتب ربنا وعز وجل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم حين رأى منهم تغيرا في القلوب ، يقول الله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16]. وحدث ابن مسعود فقال : ( ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ... إلا أربع سنين ) وزاد في رواية ( فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول : ما أحدثنا ؟ ) فإن كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم قد احتاجوا إلى تلك اللفتة القلبية بعد أربع سنوات من إسلامهم ، فكم تحتاج قلوبنا إلى تعهد وتزكية ؟!


وقسوة القلب قد تكون أحيانا نتيجة المعاصي ، ومظهراً من مظاهر غضب الله سبحانه وتعالى على العبد ، ولذلك يقول مالك بن دينار : ( ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب ، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم . ) .


وإن العيش في أعطاف النعمة ليجعل على القلب غشاوة ، تشغل المرء بذاته ، من همته ، ولذلك رأى محمد بن كعب في الآية السابقة توجيها آخر فقال :


( كانت الصحابة بمكة مجدبين ،فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عما كانوا فيه فقست قلوبهم فوعظهم الله فأفاقوا ) ، ألا فلنتواص حتى نفيق ..


إن الانشغال بلغو الكلام وتتبع الهفوات يجفف منابع اللين في القلب ، وتنعكس الآثار على صورة حدة في التعامل . جاء في موطأ الإمام مالك قوله : ( بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى ؛ فتقسو قلوبكم ؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ، ولكن لا تعلمون ، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب ، و انظروا فيها كأنكم عبيد ، فإنما الناس رجلان : معافى ومبتلى .


فارحموا أهل البلاء ، واحمدوا الله على العافية ).


إن شخصية الداعية لتقتضي القدرة على التعامل مع الناس باللين . وقد تعجبت السيدة عائشة من موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استأذن رجل بالدخول عليه ، فنعته بقوله : (( بئس أخو العشيرة )) ( فلما دخل ألان له الكلام) صحيح البخاري . وليس عجيبا أن يكون هذا شأن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو القائل : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ...الحديث ) ولما سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، أوجزها له في صفات ذكر منها : ( لين الكلام وبذل الطعام ... ) ( مسند أحمد ) .


وإذا كان قصدنا الفوز برضا الله عز وجل ، والنجاة من النار ، فإن المسلم لينال باللين ما لا يناله بالغلظة والشدة ، كما في الحديث : ( حُرِّم على النار : كل هيّن ليّن سهل ، قريب من الناس ) صححه الألباني : صحيح الجامع 3135).


ويمكن أن يكون تكلف السلوكيات اللينة مدخلا إلى اكتساب اللين القلبي ، فقد شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال له : ( إن أردت أن يلين قلبك ، فأطعم المسكين ، وامسح رأس اليتيم ) حسنه الألباني : صحيح الجامع 1410) .


وكثيرا ما يحرش الشيطان في الصدور ، حتى في لحظة القيام للصلاة ، وتسوية الإمام للصفوف ، بتأخير هذا وتقديم ذاك إلى أن يستقيم الصف ، وقد كان من وصيته صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في الصلاة : ( ... ولينوا في أيدي إخوانكم ... ) صححه الألباني ) (صحيح الجامع 1187ورواه أبو داود). لأن إقامة الصفوف وسد الخلل تقتضيان الاستجابة وعدم المعاندة .


وليس المقصود باللين عدم إنكار المنكر ، وإنما اللين في الأسلوب حيث يغني اللين ويحقق الغرض ، وذلك باستنفاذ جميع الوسائل الممكنة التي تضمن الاستجابة ، ولا تستعدي الآخرين ، وراجع ـ إن شئت ـ حديث البخاري في قصة الرجل الذي جامع أهله في نهار رمضان ، كيف عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عدداً من الخيارات للتكفير عن ذنبه فقال له : ( هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال :لا قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال : لا ) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم تمر ، فأعطاه للرجل ، وقال له : ( خذ هذا فتصدق به فقال الرجل : على أفقر مني يا رسول الله ، والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ، ثم قال : أطعمه أهلك . ) ( البخاري ) .


فاللين صورة من صور الرحمة يضعها الله في قلب العبد ، قال تعالى ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل: عمران:159].


والرفيق الرحيم أحق الناس برحمة الله عز وجل كما في الحديث : " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ".( صحيح الجامع 3522).


ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كان أرحم الناس بالصبيان والعيال ) ( صحيح الجامع 4797) ونفى كمال الإيمان عمن لا يرحم ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف شرف كبيرنا ) ( صحيح الجامع 5444) .


وحتى الرحمة بالمخلوقات من أسباب استحقاق رحمة الله في الآخرة ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من رحم ولو ذبيحة عصفور ، رحمه الله يوم القيامة) (حسنه الألباني ) .


والعلاقات الأسرية مع الأهل وذوي الرحم ، ينبغي أن يسودها الرفق واللين ؛ للمحافظة على تماسك بنيان الأسرة المسلمة وصفاء أجوائها ، كما في الحديث :


( إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق ) . رواه أحمد


والهين اللين ينسحب رفقه على كل صور حياته ، التي تقتضي السماحة واللين في التعامل مع المؤمنين ، حتى يحظى بمحبة الله سبحانه وتعالى ( إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله ) رواه البخاري. كما نحظى بعون الله عز وجل يقول رسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله رفيق يحب الرفق ، ويرضاه ، ويعين عليه ما لا يعين على العنف ... ) .


وصورة الشديد الغليظ ، الغاضب العنيف ، صورة مشينة معيبة تنفر منها الطباع البشرية ، بينما صورة السهل الرفيق ، اللين اللطيف، صورة تزين صاحبها ، وترتاح إليها النفوس ، وتأنس إليها القلوب ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه )


( صحيح الجامع 5654).


ولا ينفي كل ما مضى أن المؤمنين أشداء على الكفار رحماء بينهم، ولا أنهم يغضبون لله ، كما أنهم يلينون لوجه الله عز وجل.


الجمعة، 22 أكتوبر 2010

مغزي الحياه د راغب سرجاني

مغزى الحياة بقلم د.راغب السرجاني



د. راغب السرجاني






تدبرت كثيرًا في مسألة قيام الأمم، فلاحظت أمرًا عجيبًا، وهو أن فترة الإعداد تكون طويلة جدًّا قد تبلغ عشرات السنين، بينما تقصر فترة التمكين حتى لا تكاد أحيانًا تتجاوز عدة سنوات!! فعلى سبيل المثال بذل المسلمون جهدًا خارقًا لمدة تجاوزت ثمانين سنة؛ وذلك لإعداد جيش يواجه الصليبيين في فلسطين، وكان في الإعداد علماء ربانيون، وقادة بارزون، لعل من أشهرهم عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعًا، وانتصر المسلمون في حطين، بل حرروا القدس وعددًا كبيرًا من المدن المحتلة، وبلغ المسلمون درجة التمكين في دولة كبيرة موحدة، ولكن -ويا للعجب- لم يستمر هذا التمكين إلا ست سنوات، ثم انفرط العقد بوفاة صلاح الدين، وتفتتت الدولة الكبيرة بين أبنائه وإخوانه، بل كان منهم من سلم القدس بلا ثمن تقريبًا إلى الصليبيين!!










كنت أتعجب لذلك حتى أدركت السُّنَّة، وفهمت المغزى.. إن المغزى الحقيقي لوجودنا في الحياة ليس التمكين في الأرض وقيادة العالم، وإن كان هذا أحد المطالب التي يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها، ولكن المغزى الحقيقي لوجودنا هو عبادة الله U.. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]..






وحيث إننا نكون أقرب إلى العبادة الصحيحة لله في زمن المشاكل والصعوبات، وفي زمن الفتن والشدائد، أكثر بكثير من زمن النصر والتمكين، فإن الله -من رحمته بنا- يطيل علينا زمن الابتلاء والأزمات؛ حتى نظل قريبين منه فننجو، ولكن عندما نُمكَّن في الأرض ننسى العبادة، ونظن في أنفسنا القدرة على فعل الأشياء، ونفتن بالدنيا، ونحو ذلك من أمراض التمكين.. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 22، 23].






ولا يخفى على العقلاء أن المقصود بالعبادة هنا ليس الصلاة والصوم فقط، إنما هو في الحقيقة منهج حياة.. إن العبادة المقصودة هنا هي صدق التوجه إلى الله، وإخلاص النية له، وحسن التوكل عليه، وشدة الفقر إليه، وحب العمل له، وخوف البعد عنه، وقوة الرجاء فيه، ودوام الخوف منه.. إن العبادة المقصودة هي أن تكون حيث أمرك الله أن تكون، وأن تعيش كيفما أراد الله لك أن تعيش، وأن تحب في الله، وأن تبغض في الله، وأن تصل لله، وأن تقطع لله.. إنها حالة إيمانية راقية تتهاوى فيها قيمة الدنيا حتى تصير أقل من قطرة في يمٍّ، وأحقر من جناح بعوضة، وأهون من جدي أَسَكَّ ميت..






كم من البشر يصل إلى هذه الحالة الباهرة في زمان التمكين!!






إنهم قليلون قليلون!






ألم يخوفنا حبيبي من بسطة المال، ومن كثرة العرض، ومن انفتاح الدنيا؟!






ألم يقل لنا وهو يحذرنا: "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"؟!










إن المريض قريب من الله غالب وقته، والصحيح متبطر يبارز الله المعاصي بصحته..






والذي فقد ولده أو حبيبه يناجي الله كثيرًا، ويلجأ إليه طويلاً، أما الذي تمتع بوجودهما ما شعر بنعمة الله فيهما..






والذي وقع في أزمة، والذي غُيِّب في سجن، والذي طُرد من بيته، والذي ظُلم من جبار، والذي عاش في زمان الاستضعاف، كل هؤلاء قريبون من الله.. فإذا وصلوا إلى مرادهم، ورُفع الظلم من على كواهلهم نسوا الله، إلا من رحم الله، وقليل ما هم..






هل معنى هذا أن نسعى إلى الضعف والفقر والمرض والموت؟






أبدًا، إن هذا ليس هو المراد.. إنما أُمرنا بإعداد القوة، وطلب الغنى، والتداوي من المرض، والحفاظ على الحياة.. ولكن المراد هو أن نفهم مغزى الحياة.. إنه العبادة ثم العبادة ثم العبادة وبكل صورها.






ومن هنا فإنه لا معنى للقنوط أو اليأس في زمان الاستضعاف، ولا معنى لفقد الأمل عند غياب التمكين، ولا معنى للحزن أو الكآبة عند الفقر أو المرض أو الألم.. إننا في هذه الظروف -مع أن الله طلب منا أن نسعى إلى رفعها- نكون أقدر على العبادة، وأطوع لله، وأرجى له، وإننا في عكسها نكون أضعف في العبادة، وأبعد من الله.. إننا لا نسعى إليها، ولكننا "نرضى" بها.. إننا لا نطلبها، لكننا "نصبر" عليها.






إن الوقت الذي يمضي علينا حتى نحقق التمكين ليس وقتًا ضائعًا، بل على العكس، إنه الوقت الذي نفهم فيه مغزى الحياة، والزمن الذي "نعبد" الله فيه حقًّا، فإذا ما وصلنا إلى ما نريد ضاع منا هذا المغزى، وصرنا نعبد الله بالطريقة التي "نريد"، لا بالطريقة التي "يريد"!.. أو إن شئت فقُلْ نعبد الله بأهوائنا، أو إن أردت الدقة أكثر فقل نعبد أهواءنا!! قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43].






ولذلك كله فإن الله الحكيم الذي يريد منا تحقيق غاية الخَلْق، الرحيم الذي يريد لنا الفلاح والنجاح قد اختار لنا أن تطول فترة الإعداد والبلاء والشدة، وأن تقصر فترة التمكين والقوة، وليس لنا إلا أن نرضى، بل نسعد باختياره، فما فعل ذلك إلا لحبه لنا، وما أقرَّ هذه السُّنَّة إلا لرحمته بنا.






وتدبروا معي إخواني وأخواتي في حركة التاريخ..






كم سنة عاش نوح -عليه السلام- يدعو إلى الله ويتعب ويصبر، وكم سنة عاش بعد الطوفان والتمكين؟!






أين قصة هود أو صالح أو شعيب أو لوط -عليهم السلام- بعد التمكين؟! إننا لا نعرف من قصتهم إلا تكذيب الأقوام، ومعاناة المؤمنين، ثم نصر سريع خاطف، ونهاية تبدو مفاجئة لنا.






لماذا عاش رسولنا إحدى وعشرين سنة يُعِدُّ للفتح والتمكين، ثم لم يعش في تمكينه إلا عامين أو أكثر قليلاً؟!






وأين التمكين في حياة موسى أو عيسى عليهما السلام؟! وأين هو في حياة إبراهيم أبي الأنبياء ؟!






إن هذه النماذج النبوية هي النماذج التي ستتكرر في تاريخ الأرض، وهؤلاء هم أفضل من "عَبَدَ" الله ، {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90].






والآن بعد أن فقهت المغزى لعلك عرفت لماذا لم يعش عمر بن عبد العزيز إلا سنتين ونصف فقط في تمكينه، وأدركت لماذا قُتل عماد الدين زنكي بعد أقل من عامين من فتح الرُّها، وكذلك لماذا قُتل قطز بعد أقل من سنة من نصره الخالد على التتار في عين جالوت، وكذلك لماذا قُتل ألب أرسلان بعد أقل من عامين من انتصار ملاذكرد التاريخي، ولماذا لم "يستمتع" صلاح الدين بثمرة انتصاره في حطين إلا أقل من سنة ثم سقطت عكا مرة أخرى في يد الصليبيين، ولماذا لم يرَ عبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين التمكين أصلاً، ولماذا مات خير رجال دولة الموحدين أبو يعقوب يوسف المنصور بعد أقل من أربع سنوات من نصره الباهر في موقعة الأرك.






إن هذه مشاهدات لا حصر لها، كلها تشير إلى أن الله أراد لهؤلاء "العابدين" أن يختموا حياتهم وهم في أعلى صور العبادة، قبل أن تتلوث عبادتهم بالدنيا، وقبل أن يصابوا بأمراض التمكين.






إنهم كانوا "يعبدون" الله حقًّا في زمن الإعداد والشدة، "فكافأهم" ربُّنا بالرحيل عن الدنيا قبل الفتنة بزينتها..






ولا بد أن سائلاً سيسأل: أليس في التاريخ ملك صالح عاش طويلاً ولم يُفتن؟! أقول لك: نعم، هناك من عاش هذه التجربة، ولكنهم قليلون أكاد أحصيهم لندرتهم! فلا نجد في معشر الأنبياء إلا داود وسليمان عليهما السلام، وأما يوسف -عليه السلام- فقصته دامية مؤلمة من أوَّلها إلى قبيل آخرها، ولا نعلم عن تمكينه إلا قليل القليل.






وأما الزعماء والملوك والقادة فلعلك لا تجد منهم إلا حفنة لا تتجاوز أصابع اليدين، كهارون الرشيد وعبد الرحمن الناصر وملكشاه وقلة معهم..






لذلك يبقى هذا استثناءً لا يكسر القاعدة، وقد ذكر ذلك الله في كتابه فقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].. فالذي يصبر على هذه الفتن قليل بنص القرآن، بل إن الله إذا أراد أن يُهلك أمة من الأمم زاد في تمكينها!! قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].






إنني بعد أن فهمت هذا المغزى أدركت التفسير الحقيقي لكثيرٍ من المواقف المذهلة في التاريخ.. أدركت لماذا كان عتبة بن غزوان يُقْسِم على عمر بن الخطاب أن يعفيه من ولاية البصرة! وأدركت لماذا أنفق الصديق ماله كله في سبيل الله، وأدركت لماذا حمل عثمان بن عفان وحده همَّ تجهيز جيش العسرة دون أن يطلب من الآخرين حمل مسئولياتهم، وأدركت لماذا تنازل خالد بن الوليد عن إمارة جيش منتصر، وأدركت لماذا لم يسعد أبو عبيدة بن الجراح بولايته على إقليم ضخم كالشام، وأدركت لماذا حزن طلحة بن عبيد الله عندما جاءه سبعمائة ألف درهم في ليلة، وأدركت لماذا تحول حزنه إلى فرح عندما "تخلَّص" من هذه الدنيا بتوزيعها على الفقراء في نفس الليلة!!






أدركت ذلك كله.. بل إنني أدركت لماذا صار جيل الصحابة خير الناس! إن هذا لم يكن فقط لأنهم عاصروا الرسول، بل لأنهم هم أفضل من فقه مغزى الحياة، أو قل: هم أفضل من "عَبَدَ" الله؛ ولذلك حرصوا بصدق على البعد عن الدنيا والمال والإمارة والسلطان، ولذلك لا ترى في حياتهم تعاسة عندما يمرضون، ولا كآبة عندما يُعذَّبون، ولا يأسًا عندما يُضطهدون، ولا ندمًا عندما يفتقرون.. إن هذه كلها "فُرَص عبادة" يُسِّرت لهم فاغتنموها، فصاروا بذلك خير الناس.






إن الذي فقِه فقههم سعِد سعادتهم ولو عاش في زمن الاستضعاف! والذي غاب عنه المغزى الذي أدركوه خاب وتعس ولو ملك الدنيا بكاملها.














إنني أتوجه بهذا المقال إلى أولئك الذين يعتقدون أنهم من "البائسين" الذين حُرموا مالاً أو حُكمًا أو أمنًا أو صحة أو حبيبًا.. إنني أقول لهم: أبشروا، فقد هيأ الله لكم "فرصة عبادة"! فاغتنموها قبل أن يُرفع البلاء، وتأتي العافية، فتنسى الله، وليس لك أن تنساه.. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].






وأسأل الله أن يفقهنا في سننه..






وأسأله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين


‏{..هؤلاء ضيفي فلا تـفضحون واتقوا الله ولا تخزون}‏,,


...فـ { قَالَ } لهم لوط من شدة الأمر الذي أصابه:{ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }




بداية القصة ,,


يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } أي: عن تلك القصة العجيبة فإن في قصك عليهم أنباء الرسل وما جرى لهم ما يوجب لهم العبرة والاقتداء بهم، خصوصا إبراهيم الخليل، الذي أمرنا الله أن نتبع ملته، وضيفه هم الملائكة الكرام أكرمه الله بأن جعلهم أضيافه.






{ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا } أي: سلموا عليه فرد عليهم { قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي: خائفون، لأنه لما دخلوا عليه وحسبهم ضيوفا ذهب مسرعا إلى بيته فأحضر لهم ضيافتهم، عجلاً حنيذا فقدمه إليهم، فلما رأى أيديهم لا تصل، إليه خاف منهم أن يكونوا لصوصا أو نحوهم.






فـ { قَالُوا } له: { لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } وهو إسحاق عليه الصلاة والسلام، تضمنت هذه البشارة بأنه ذكر لا أنثى عليم أي: كثير العلم، وفي الآية الأخرى { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ }






فقال لهم متعجبا من هذه البشارة: { أَبَشَّرْتُمُونِي } بالولد { عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ } وصار نوع إياس منه { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } أي: على أي وجه تبشرون وقد عدمت الأسباب؟






{ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ } الذي لا شك فيه لأن الله على كل شيء قدير، وأنتم بالخصوص -يا أهل هذا البيت- رحمة الله وبركاته عليكم فلا يستغرب فضل الله وإحسانه إليكم.






{ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ } الذين يستبعدون وجود الخير، بل لا تزال راجيا لفضل الله وإحسانه، وبره وامتنانه، فأجابهم إبراهيم بقوله: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } الذين لا علم لهم بربهم، وكمال اقتداره وأما من أنعم الله عليه بالهداية والعلم العظيم، فلا سبيل إلى القنوط إليه لأنه يعرف من كثرة الأسباب والوسائل والطرق لرحمة الله شيئا كثيرا، ثم لما بشروه بهذه البشارة، عرف أنهم مرسلون لأمر مهم.






أي: { قَالَ } الخليل عليه السلام للملائكة: { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ } أي: ما شأنكم ولأي شيء أرسلتم؟






{ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ } أي: كثر فسادهم وعظم شرهم، لنعذبهم ونعاقبهم، { إِلَّا آلَ لُوطٍ } أي: إلا لوطا وأهله { إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ } أي: الباقين بالعذاب، وأما لوط فسنخرجنه وأهله وننجيهم منها، فجعل إبراهيم يجادل الرسل في إهلاكهم ويراجعهم، فقيل له: { يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } فذهبوا منه.






{ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ } لهم لوط { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } أي: لا أعرفكم ولا أدري من أنتم.






{ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي: جئناك بعذابهم الذي كانوا يشكون فيه ويكذبونك حين تعدهم به، { وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ } الذي ليس بالهزل { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فيما قلنا لك.






{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ } أي: في أثنائه حين تنام العيون ولا يدري أحد عن مسراك، { وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ } أي: بادروا وأسرعوا، { وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } كأن معهم دليلا يدلهم إلى أين يتوجهون { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ } أي: أخبرناه خبرا لا مثنوية فيه، { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } أي: سيصبحهم العذاب الذي يجتاحهم ويستأصلهم، { وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ } أي: المدينة التي فيها قوم لوط { يَسْتَبْشِرُونَ } أي: يبشر بعضهم بعضا بأضياف لوط وصباحة وجوههم واقتدارهم عليهم، وذلك لقصدهم فعل الفاحشة فيهم، فجاءوا حتى وصلوا إلى بيت لوط فجعلوا يعالجون لوطا على أضيافه، ولوط يستعيذ منهم ويقول: { إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُون وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُون } أي: راقبوا الله أول ذلك وإن كان ليس فيكم خوف من الله فلا تفضحون في أضيافي، وتنتهكوا منهم الأمر الشنيع.






فـ { قَالُوا } له جوابا عن قوله ولا تخزون فقط: { أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ } أن تضيفهم فنحن قد أنذرناك، ومن أنذر فقد أعذر، فـ { قَالَ } لهم لوط من شدة الأمر الذي أصابه: { هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } فلم يبالوا بقوله ولهذا قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذه السكرة هي سكرة محبة الفاحشة التي لا يبالون معها بعذل ولا لوم.






فلما بينت له الرسل حالهم، زال عن لوط ما كان يجده من الضيق والكرب، فامتثل أمر ربه وسرى بأهله ليلا فنجوا، وأما أهل القرية { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } أي: وقت شروق الشمس حين كانت العقوبة عليهم أشد، { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } أي: قلبنا عليهم مدينتهم، { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } تتبع فيها من شذ من البلد منهم.






{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } أي: المتأملين المتفكرين، الذين لهم فكر وروية وفراسة، يفهمون بها ما أريد بذلك، من أن من تجرأ على معاصي الله، خصوصا هذه الفاحشة العظيمة، وأن الله سيعاقبهم بأشنع العقوبات، كما تجرأوا على أشنع السيئات.






{ وَإِنَّهَا } أي: مدينة قوم لوط { لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } للسالكين، يعرفه كل من تردد في تلك الديار { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } وفي هذه القصة من العبر: عنايته تعالى بخليله إبراهيم، فإن لوطا عليه السلام من أتباعه، وممن آمن به فكأنه تلميذ له، فحين أراد الله إهلاك قوم لوط حين استحقوا ذلك، أمر رسله أن يمروا على إبراهيم عليه السلام كي يبشروه بالولد ويخبروه بما بعثوا له، حتى إنه جادلهم عليه السلام في إهلاكهم حتى أقنعوه، فطابت نفسه.






وكذلك لوط عليه السلام، لما كانوا أهل وطنه، فربما أخذته الرقة عليهم والرأفة بهم قدَّر الله من الأسباب ما به يشتد غيظه وحنقه عليهم، حتى استبطأ إهلاكهم لما قيل له: { إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب } ومنها: أن الله تعالى إذا أراد أن يهلك قرية [ازداد] شرهم وطغيانهم، فإذا انتهى أوقع بهم من العقوبات ما يستحق










ضيف ابراهيم عليه السلام : وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإِهلاك قوم لوط، وكانوا عشرة على صورة غلمانٍ حسانٍ معهم جبريل عليهم السلام.














دعوووهـ :


لا تنسوا ان لنا اخوة مسلمين لازالوا تحت التراب لا نعلم حالهم..ولكن ندعوا في ظهر الغيب لهم بآخر ساعة من الجمعة,,






اللهم ابدلهم داراً خيراً من دارهم واهلاً خيراً من اهلهم يارب






اللهم انهم في ضيافتك فاحسن ضيافتهم واكرمهم وارحمهم يارب






اللهم انك غني عن عذابهم فأرحمهم وابدل سيائتهم حسنات يارب






















{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ(51)إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ(52)قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ(53)قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ(54)قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ(55)قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ(56)قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ(57)قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ(58)إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ(59)إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ(60)فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ(61)قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ(62)قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ(63)وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(64)فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ(65)وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ(66)وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ(67)قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ(68)وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ(69)قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ(70)قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ(71)لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ(73)فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ(74)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ(75)وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ(76)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ(77)}

الأربعاء، 20 أكتوبر 2010

الأحد، 10 أكتوبر 2010

ازدواجية ليبرالية: فضائح ملا وقس وحاخام.. وزلة شيخ



أمير سعيد
29/10/1431 هـ

amirsaid@gawab.com







لقد ضرب لنا الليبراليون العرب أوضح الأمثلة في "الستر" على فضائح الآخرين ودللوا بجلاء عن إيمانهم بوجوب هذه "الفضيلة العظيمة" فيما يتعلق بالطوائف وأصحاب الديانات الأخرى إلى حد لم يعد يوجد في أمتنا من يباريهم في ذلك؛ فقصب السبق لهم وهم أصحاب المثال العصري الرائد في ذلك.







وإذا كان المخطئ من غير سوادنا الأعظم، أو كان على ملة تخالفنا فله الأعذار مجتمعة ولا بأس من صرف الشواهد على الظنيات ووهب الأخطاء لفيض الإحسان!







لك "الستر" إن لم تكن سنياً؛ فإن كنتَ "فسنجهل فوق جهل الجاهلينا"، ولو كان خطؤك زلة فتوى أو خطأ تعبير أو عبارة محتملة أو هفوة أو ذنب عابر.. هذا ما يبرهن عليه تعاطي صحافتنا العربية ومواقعنا الإلكترونية وإعلامنا المرئي مع كل صغيرة تصدر من عالم مسلم وأخرى كبيرة تصدر من حاخام أو قس أو حتى "آية" من آيات الفرس التي كان لنا فيها عبرة.







الداعية الشيعي الفار إلى حضن بريطانيا الدافئ لم يتناوله الإعلام الخائن عندنا على أنه مهرطق مسيء للدين الإسلامي ومقدساته إلا لماماً، ولم تلاحقه صحافتنا العربية كما لاحقت صاحب الرسوم المسيئة مع تشابههما في الجرم والخطيئة إلا قليلاً، وتجاهلت معظم القنوات المتلفزة تتبع أسباب هذه الإساءة وجذورها، والمعلن منها والمستور.







والليبراليون الذين يهرعون إلى أبواقهم عندما يزل عالم أو شيخ في فتوى أو في غالب الأحيان عندما يقلبون كلامه فيفهمون منه ما تريد قلوبهم المريضة، ويتلاطمون على رفض حكم الدين وتسلط "رجال الدين"، عميت أعينهم عن قراءة فتوى أصدرها خامنئي في يونيو ربط فيها منصب ولاية الفقيه في إيران بحكم الرسول وبصلاحيات أئمة الشيعة، و"ضرورة التسليم لأوامره ونواهيه"، وتأكيدات أحمد جنتي سكرتير مجلس صيانة الدستور الإيراني أن "الله حول إليه مهمة الحفاظ على الثورة الإيرانية وديمومتها"، والذي ادعى في الشهر ذاته أنه يقابل "الإمام الغائب" في خلوة! لكنهم اليوم يطبلون له بسبب فتوى "زوجة النبي صلى الله عليه وسلم" ـ على حد وصفه ـ ويزمرون بلا فهم أو تفكير أو مسحة عقل.











والذين صدعوا رؤوسنا بمحاربة ما يشتم منه على بعد آلاف الكيلومترات رائحة التكفير من علمائنا السنة، زكمت أنوفهم فلم تشم رائحة ما قاله محمد تقي مصباح يزدي الأب الروحي للرئيس الإيراني نجاد، وهو بدرجة " آية الله" الحوزوية صراحة في يونيو الماضي عن أن "من ينكر ولاية الفقيه متعمدا فهو مرتد."، بعد أن ارتمى مقبلاً حذاء مرشد الثورة علي خامنئي ـ بحسب مواقع إيرانية ـ ولم ينبسوا ببنت شفة عن هذا المعتقد الإقصائي التكفيري وأتباعه في عالمنا العربي والإسلامي، وهو لم "يتورط" في تكفير آحاد من ملاك فضائيات إباحية، بل شطب بممحاته التكفيرية أكثر من مليار ونصف المليار مسلم من ديانة الإسلام لا يؤمنون بخرافة "ولاية الفقيه" بل كل المسلمين على مر العصور، لا بل حتى السواد الأعظم من الشيعة قبل قرون ثلاثة لم يكن فيها الشيعة يعرفون إلا ولاية الإمام وليس ولاية الفقيه..







وعلى ذكر الإباحية وفضائياتها، هل حفلت وسائل إعلامنا التي أقامت مناحة على روح ميكي ماوس وفاضت بكل قبيح على علماء السنة بأي حديث أو مقال أو تلميح أو تصريح عن فضيحة أكبر وكلاء السيستاني والمعتمد الرئيسي للمرجعية ومسؤول هيئة الحج والعمرة في محافظة ميسان العراقية مناف الناجي الذي تحول من ممثل المرجعية إلى ممثل إباحي، وأثارت مقاطعه المرئية موجات عنيفة بين الشيعة أنفسهم في محافظته ـ لم تغطها تلك الوسائل وإنما اكتفت بتغطية الوكيل نفسه !! ـ تسبب بعضها في مقتل نساء كن ضحاياه وهدفاً لانتقام أهلهن بعد ذلك، قتلاً دفاعاً عن الشرف.







وهؤلاء الذين طاروا بمعلومات غير دقيقة عن "أجور" الدعاة التي نشرتها فوربس العربية المشبوهة والتي أغلقت مجلتها فيما بعد، وأظهر ليبراليونا لوعتهم على أموال المسلمين الضائعة الذاهبة إلى "جيوب الدعاة" (وهي أجور في أبسط الأحوال وليست اختلاسات أو سرقات)، مروا على خبر اتهام إمام المركز "الإسلامي" في مدينة ديربورن بولاية ميتشيغان حسن القزويني في يوليو الماضي بالاستيلاء على مبلغ من المال يقدر بـ350 ألف دولار جُمع عن طريق تبرعات أبناء الجالية العربية وتم تحويلها إلى مؤسسة والد القزويني في ولاية كاليفورنيا، وتجاهلوا عن عمد أخبار التدفقات المالية الذاهبة إلى بريطانيا لشراء قصور وفلل ومساكن فخمة لـ"آيات" وزوجاتهم وأبناء، لاسيما أولئك الذي يخادعون بسطاء طائفتهم بزهدهم المصطنع في العراق وإيران.







والذين قعدوا بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبل الخير، يجهدون لتصيد أي هفوة أو ذنب عابر لشيخ سني أو عالم أو داعية ولا يجدون غالباً فيعمدون إلى التأليف والاختلاق، أخطأت قعداتهم رؤية بابا الفاتيكان محاصراً في لندن خلال زيارته لها بفضائح القساوسة الجنسية التي أضحت تلاحقه أينما ذهب كقرين لا يفارقه في كل مكان، كونها باتت ملفاً زاخراً لا تنقضي مفاجآته وأحداثه في بلدان أوروبا والأمريكتين، وسلوك لصيق بقطاع عريض من الكهنة لا مجرد حادثة ولا حتى ظاهرة هنا أو هناك.

وهم مرت عليهم منذ عام كامل، أنباء أكبر فضيحة فساد وغسيل أموال قذرة في الولايات المتحدة "أبطالها" خمسة حاخامات يهود من "إسرائيل" وسوريا إضافة إلى عشرات المعاونين، في نيويورك ونيوجيرسي، لتبييض أموال تجارة أعضاء بشرية، واختلاسات وسرقات بعشرات الملايين من الدولارات، ولم نسمع لهم ركزاً طوال تلك الفترة كلها، كما لم نسمع لهم في الشهر نفسه عن ابتزاز الحاخام يسرائيل رند الذي أرسل إحدى الداعرات لأمين الكنيس الكبير بالقدس الحاخام نفتالي هيرشطيك من أجل تسجيل موقف عليه في مسعى للإطاحة به من موقعه بالكنيس والحلول محله، وأرسل من ثم صوره المشينة للكنيس الذي اضطر إلى عزله، وإذا كانت تلك الفضائح سقطت في صحافتنا وإعلامنا بالتقادم؛ فكيف فاتهم أيضاً فضيحة "الداعية" اليهودي الذي ذكرت معاريف قصته هذا الأسبوع واصفة إياه بـ"الأبشع في تاريخ جرائم الاغتصاب"، وأوضحت أن التحقيق يجري معه بعد أن اغتصب جميع أولاده (بنين وبنات) الأربعة العشر على مدى عدة سنوات، ومزق جلد أحد أولاده ومنع أطفاله من الأكل وكسر أسنان بعضهم!!







والأحدث هو ما نقلته يديعوت أحرونوت أوائل أكتوبر عن مقال أكاديمي كتبه الحاخام اري شفات الخبير فيما يقال إنه "الشريعة اليهودية" ينص فيه على أن "الشريعة اليهودية تسمح للنساء اليهوديات بممارسة الجنس مع العدو من أجل الحصول على معلومات استخباراتية مهمة لأمن إسرائيل"، ويقدم نصائحه لأتباعه بالقول "من الافضل إعطاء هذه المهمات لنساء فاسقات".، وكلها معطيات يمررها القوم عندنا دون ضجيج انتظاراً لسمعة شيخ ضعيف ينهشونها وموقف يتخذه يسلقونه عليه بألسنة حداد.











هذا؛ فإن صدرت فتوى شاذة هنا أو لم ترُق لبعضهم، أو اتخذ شيخ أو عالم سنة موقف لا يرضيهم، أقاموا اللطميات وعقدوا المؤتمرات وحذروا وأهابوا وطالبوا.. ثم حرضوا على تكميم الأفواه الصادقة إلا أفواههم، وأبدوا ـ في لوعة مصطنعة بغيضة ـ حدبهم على الدين وشكله وسماحته.. فسحقاً لناصية ليبرالية كاذبة خاطئة، لا ترى عيناها إلا القذة في عيون خصومها وتتعامى عن الخشبة في عيون الحلفاء!!






الجمعة، 1 أكتوبر 2010

انتم لاتعرفوني

انتم لا   تعرفونني!





















لا أحد يحس بالبركان الذي يغلي فى صدرك،حتى أقرب الناس إليك لا يرى أن ابتسامتك ربما تخفى كهفاً من الأحزان لا يراه ولا يحسه غيرك...لا يعرفون أن نكاتك التى تلقيهايمينا وشمالا ربما هى قناع لنفسك المكسورة الحزينة ...قناع يرسمه كبرياؤك الذي يأبي أن يراه أي إنسان فى موقف ضعف...عيناك لم تتوقف عن الدموع ولكنها دموع لا يراها أحد...فعيناك تدمع داخلك...تتجنب النظر إلى المرآة وأنت تصفف شعرك...تخشى أن تفضحك المرآه فتظهر ما بداخلك...تحس أنك ريشة فى مهب رياح الحياة المجنونة التى لا تأبه لصرخاتك المكبوتة و تأخذك بعيداً عن أحلامك ...بعيدا عن الحياة التى حلمت بها وخططت لها...تحس أن أقرب الناس إليك لا يعرفونك!.






من منا لم تجتاحه هذه الأحاسيس يوما ما...من منا لم يحس أن كل شئ حوله يتحرك وهو متجمد فى مكانه...تنير الشمس كل مكان على وجه الأرض إلا قلبه وروحه...يحس أنه شبح لا يراه أحد ولا يحس بوجوده أحد...تعذبه الوحدة حتى وإن عاش فى بيت مزدحم... فلا أحد يفهمه أو (يراه) حتى أقرب الناس إلى قلبه.






إذا مرت بك تلك الأحاسيس المرعبة – وحتماً ستمر بك - فلا تخاف!... كل هذه الأحاسيس هى جزء من طبيعتك البشرية التى فطرك الله عليها؛ هى أحاسيس إنسانية تجتاح قلوب كل البشروتجرى فى شرايين روحك تماما كما يجري الدم فى شرايين جسدك.






وعندما تحتل هذه الأحاسيس المؤلمة أرجاء قلبك فاعلم أنك لست وحدك... الملايين على هذه الأرض يشعرون فى نفس هذه اللحظة بنفس ما تحس به ولكنك لا تراهم يتألمون، تماما مثل عدم قدرتهم على رؤيتك تتألم... فمنذ طفولتنا ونحن فى تدريب عملى يومي على استخدام تلك الأقنعة النفسية التى نغطى بها جراح أرواحنا حتى لا يرى الناس منك إلا ما تريد أن تريه أنت لهم.






ليس هناك إنسان معصوم من هذه المشاعر المخيفة التى تجتاح قلوب الجميع ولا تفرق بين البسطاء والعلماء وحتى الأنبياء... الفرق الوحيد أنه كلما ارتقى مستوي الإنسان روحيا أو علميا كلما ازدادت إجادته لاستخدام تلك الأقنعة النفسية، والقرآن يحدثنا عن أناس فقراء يعتقد المجتمع أنهم أغنياء لأنهم يجيدون فن التعفف، وربما يبيتون جوعى تئن بطونهم بينما يحسبهم جيرانهم أنهم أصحاب أموال وأطيان.






حتى الأنبياء رضوان الله عليهم لم يكونوا معصومين من أن تجتاح تلك المشاعر المؤلمة لقلوبهم الطاهرة حتى ولو لثوان معدودة...فموسى عليه السلام الذي بلغت قوته الجسدية أن دفعة من يده تقتل رجلا، وبلغت قوته النفسية أن يقف لفرعون ويتحداه فى عقر داره ،نراه يجلس وحيداً بجانب صخرة فى الصحراء وقد تكلمت روحه المتألمة من تحت القوة التى يراه الناس بها مناجياً ربه بإحساسه أنه ضعيف فقير... فقير فى تأثيره على الناس... فقير فى وحدته العاطفية بلا زوجة ولا أولاد... فقير فى غربته بلا وظيفة ولا صديق فى بلد بعيدة.






قرأت كتابات لأطباء نفسيين فى الغرب عن تجاربهم وأكثر الحالات التى أثرت فى حياتهم فوجدت فى كتاباتهم قاسما مشتركا عن الاختلاف الرهيب بين رؤيتنا لإنسان وبين رؤية هذا الإنسان لنفسه، وعن هذه الأقنعة التى يغطى الناس بها آلامهم ولا يحس بها أحد...فهذه نجمة سينمائية هوليودية لا يختلف اثنان على جمالها ولكنها كانت تتجنب النظر العميق فى المرآة لإحساسها بدمامتها وفشلها فى الحياة... وهذا ملياردير اقتصادي ناجح يملك شركات فى كل أنحاء العالم ويؤثر فى اقتصاد دول بأكملها لكنه فى الحقيقة إنسان حزين يتألم داخلياً لأنه يعتقد أنه أضاع حياته فى جمع المال وأخذته الحياة بعيداً عن حلمه أن يكون مؤرخاً ومكتشفاً للآثار والحضارات، ورغم نجاحه الساحق فى مجاله إلا أن هذا النجاح ما هو إلا قناع يغطى به آلام الفشل التى احتلت قلب روحه وجعلته إنسانا حزينا رغم أن صورته على غلاف مجلة (فوربس) تحمل ابتسامة يظن من يراها أن هذا الرجل هو أسعد إنسان فى العالم.






وربما يفسر هذا ظاهرة انتحار أوحوادث موت أناس يظن كل منا أنهم فى غاية السعادة والنجاح فى حياتهم إلا أن تحقيقات الشرطة والطب الشرعي تثبت أننا لم نكن نعرفهم فهم كانوا محطمين داخليا وكل هذا النجاح والشهرة والمال والضحكات على شاشات التلفاز لم تكن إلا أقنعة نفسية تغطى أمواجا كالجبال من مشاعر الألم والوحدة والفشل تغرق فيها أرواحهم ولا يحس بهم أحد... فمايكل جاكسون الذي كان ملء السمع والبصر والذي ظن الناس أنه ملك كل شئ فى الدنيا لم يكن يملك أن ينام ليلة واحدة نوما عميقا طبيعيا مثل أي إنسان فقير فى أفقر مكان فى العالم ، وكان (جاكسون) لا يمكنه النوم إلا بالتخدير الكلي عن طريق طبيب وظل ذلك سراً لا يعرفه أحد عن (مايكل جاكسون) الذي ارتدى قناع النجاح الساحق حتى مات بسبب جرعة تخدير زائدة وكان كل أمله بضع ساعات من النوم كي ينسى أحزانه.






وربما أراد الممثل الشهير (هيث ليدجر) بطل فيلم (Dark Knight) أن يلفت أنظارنا إلى تلك القضية حين جسد دور )الجوكر( الذي يرسم على وجهه شفاة مبتسمة و وجها ضاحكا لكنها فى الحقيقة ما هى إلا ألوان وقناع يغطى جراحا غائرة على الوجه وداخل الروح...(ليدجر) نفسه كنا نراه شاباً فى ريعان الشباب وقد ملك الدنيا بيديه فها هو الذي مازال فى سن العشرينات إلا أنه تصدر قائمة أعلى الأجور فى العالم، ولا يشارك فى أي فيلم إلا ويرشح للأوسكار، واعتبر النقاد أنه سيصبح ممثل القرن الواحد والعشرين إلا أن كل هذا النجاح لم يكن إلا قناعا يغطي به (ليدجر) آلامه النفسية التى جعلته يعيش على العقاقيرالنفسية لمحاربة الإكتئاب الذي يعتصره ويحوله إلى بقايا إنسان ثم يموت نتيجة جرعة زائدة من هذه العقاقير وكأنه يقول لنا...أنتم لا تعرفونني...تظنون أنني إنسان سعيد ناجح وتتمنون أن تكونوا مثلي...ولكنكم لا تعرفونني...فأنتم ترونى أبتسم وأضحك وأنا اتسلم الجوائز... أنتم ترونى أقود أغلى السيارات وأعيش فى أفخم القصور وربما منكم من يعلق صورتى فى غرفته أو خلفية كومبيوتره...تقرؤون فى الصحف عن أدق تفاصيل حياتي وتتحدث البرامج الحوارية عن علاقاتي العاطفية ونوع الطعام الذي أحب وحتى نوع ملابسي الداخلية ولكنكم مازلتم لا تعرفونني... أنتم لا ترون إلا القناع الذي يغطى شخصاً آخراً يصارع الآلام والأحزان فى كل لحظة... وربما ستعرفون من أنا...(أنا) الحقيقي..عندما تشاهدون صورتي ميتا وحيدا فى غرفتى بدون أصدقاء أو صحافة أو أضواء وحولى علب الأدوية الفارغة وكوب الماء النصف ممتلء.






نعم لست وحدك من يشعر بهذه المشاعر...ولست وحدك من ينظر حوله ويصرخ بصوت غير مسموع فى وجه أصدقائه وأهله قائلا أنتم لا تعرفونني... فالجميع يصرخ هذه الصرخة غير المسموعة طوال الوقت، وكما أنهم لا يسمعونك فأنت أيضا لا تسمعهم.






الحقيقة التى لن تتغير أن الغالبية العظمى من الناس فى هذه الحياة لا يعرفونك حتى ولو كنت أشهر إنسان على وجه الأرض...فلماذا إذا تهتم برأي الناس فيك؟ ولماذا يؤرقك كلامهم وأحكامهم؟ ولماذا تريد أن تقهر نفسك وتغير أسلوب حياتك من أجل أن ترضيهم؟ ولما تحزن أو تفرح إن ظن الناس أنك فاشل أو ناجح أو كسلان أو نشيط أو منحل أو متدين أو فقير أو غني؟ أحكام الناس عليك كلها أحكام باطلة لأنهم لا يعرفونك!






الحقيقة أننا مجرد بشر ولا نملك التكنولوجيا التى تجعلنا نصور أرواح الناس بآشعة لنرى آلام أو أفراح أرواحهم ونتفهمها... الحقيقة أنه يمكنك أن تقضى سنوات كاملة فى صحبة صديق ولكنك فى الحقيقة لا تراه ولا يراك من الداخل... الحقيقة أنه يمكنك أن تعيش مع زوجتك لسنوات وسنوات وأنت لا ترى آلامها الداخلية ولا تسمع هى صرخاتك المكتومة... و إذا كنا حتى لا نستطيع أن نحكم على أقرب الناس إلينا فكيف تأخذنا عزتنا بالإثم لنحكم على أناس لا نعرفهم.






نرى إنسانا قد أخطأ مرة فى حياته فنقذفه بأحجار أحكامنا القاسية عليه ونحن لا نعرفه...نرى إنساناً يعاني من البدانة فنلومه فى عقولنا على كسله وضعفه أمام الطعام ونسخر منه ونحن لا نعرفه... نرى طالبا قد رسب فى امتحان فنحكم عليه بالفشل واللامبالاة ونحن لا نعرفه ...نرى فتاة قد تأخر زواجها فنحكم عليها بالفشل الإجتماعي ونحن لا نعرفها... نرى إنساناً تعثر فى حياته العملية فنلومه ونحكم عليه أنه فاشل ونحن لا نعرفه...نري إنساناً يخالفنا أسلوب الحياة الذي اعتدنا عليه فنسخر منه ونأخذ منه موقفاً ونعاديه ونحن لا نعرفه.






هناك فرد واحد فقط هو الذي يملك أن يري أرواحنا على حقيقتها بدون الأقنعة التى نرسمها على وجوهنا وأفعالنا...هذا الفرد هو الله الأحد الذي يغفر كل شئ إلا أن ينازعه أحد فى ملكه وألوهيته...وكل منا يخطأ هذا الخطأ وينازع الله فى حكمه ويحول نفسه إلى نصف إله ليحكم على الناس ويقيمهم ويصنفهم وينسى أن روحه مازالت تصرخ غاضبة فى صمت فى وجه كل من يرتكب نفس الشئ فى حقه ويحكم عليه قائلة: أنتم لا تعرفونني.






د.أحمد غانم